أنظومة “التفاهة اندبندنت عربية كثر “التافهون.

عبدالحق خرباش ..04.03.2024
كاتب صحفي ومدير النشر للجريدة HAKIKANEWS.NET

 

حقيقة نيوز . نت
اندبندنت عربية كثر “التافهون.

غني عن البيان أن أنظومة “التفاهة” قد سيطرت بقوة بعد تطور التكنولوجيا المذهل وعصر الفضاء الافتراضي بحيث كثر “التافهون” الذين باتوا يمتلكون منبراً إعلامياً وصارت لهم كلمة مهما كانوا تافهين. فخلقت هذه الأنظومة موازين قوى جديدة في المجتمعات المعاصرة. هكذا صارت للقطيع الافتراضي كما يحلو لي أن أسميه سلطة وأصبح صوت “التافهين” مؤثراً. يحضرني في هذا السياق كتاب آلان دونو “نظام التفاهة”. وعليه، تسود منافسة شديدة، اليوم، بين التافه الافتراضي من جهة والمثقف الافتراضي من جهة أخرى، أو بالأحرى بين العصبة التافهة الافتراضية والثلة المثقفة الافتراضية التي حلت محل الإنتلجنسيا وجماعة المثقفين العضويين والكليين. إذاً، سلطة جديدة بدأت تتكون في الفضاء الافتراضي أو العمومي هي سلطة التافه الافتراضي أو بالأحرى سلطة العصبة التافهة الافتراضية.
انكفاء الفلسفة وتراجع العلوم الإنسانية
نعود إلى أصل المشكلة. فازدهار العلم الحديث وتقدمه السريع وانتشار التعليم لم يترافق مع بناء الإنسان في غالبية المجتمعات. وازداد الأمر سوءاً مع انكفاء الفلسفة وتراجع العلوم الإنسانية. لا ننسى أن كنط كان قد حدثنا منذ نهاية القرن الـ18 في تصدير كتابه الأعظم “نقد العقل المحض” عن ازدراء عصره للميتافيزيقا، أي عن ازدراء الفلسفة. ولا ننسى أيضاً المقولات التي راجت في النصف الأول من القرن الـ20 عن موت الفلسفة ونهايتها، وعن موت الميتافيزيقا ونهايتها وإحلال نشاطات أخرى مكانها. وقد اعتبر جيل دولوز وفيليكس غاتاري هذه المقولات في كتابهما “ما الفلسفة”؟ مجرد ثرثرات متعبة وعديمة النفع. وعليه، كثرت الشهادات العلمية العليا، لكن غاب الإنسان، لأن علوم الطبيعة معطوفة على علوم المال لم تستطع في ظل رأسمالية متوحشة أن تبني الإنسان. وزاد الطينة بلة في بعض المجتمعات تقدم الأصوليات الدينية والأيديولوجيات الاستبدادية التي احتلت الساحة التي تركتها الفلسفة والعلوم الإنسانية. عندئذ، أعيد بناء الإنسان، لكن بصورة مشوهة مزيفة مريضة لا تتناسب مع العصر الراهن، عصر الحداثة والديمقراطية والمجتمعات المتنوعة واختلاط الشعوب والثقافات. فتنوع المجتمعات البشرية المعاصرة يفرض على فلسفة اليوم أن تؤسس للاختلاف بالاستناد إلى لا يقينيتها. وغياب الفلسفة بهذا المعنى أنعش الأصوليات الدوغمائية من كل الأنواع، الإيمانية والإلحادية، وأعادنا إلى البربرية والتوحش! حتى الملحد الذي يزعم القبض على الحقيقة لا يقل خطراً عن المؤمن الذي يزعم الزعم نفسه! فكلاهما يفكر بالطريقة ذاتها!
إذاً، فالاجتماع البشري المعاصر بسبب تنوعه الشديد به حاجة ماسة إلى الفلسفة لكي يعيش بسلام، وإلا تفسخ وتفجر من داخله! وعليه، فالفلسفة العقلانية المستنيرة، اليوم، وحدها التي تؤسس للاختلاف والتعايش بين البشر.
هذا الإنسان الذي لم تستطع علوم الطبيعة أن تبنيه والذي تشوه بناؤه مع الأصوليات الدينية والأيديولوجيات الاستبدادية تحول إلى إنسان تافه وحتى إلى إنسان فاسد، لا سيما مع انبلاج عصر الفضاء الافتراضي، همه جمع المال والعيش بتفاهة بحيث زاد نمط الاستهلاك المفرط. الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك. هذا هو شعار الرأسمالية الذي روجته للمجتمعات الحديثة حتى تستطيع أن تبقي عجلة الاقتصاد تدور بأقصى سرعة، فتجمع المال الوفير وتتحكم بمصير الشعوب. وأكبر مثال على ذلك القطاع المصرفي في لبنان الذي كان يضم خيرة الشباب المتعلم في لبنان، ومع ذلك تحول إلى قطاع فاسد، إذ كان سبباً رئيساً في أكبر انهيار مالي عرفه لبنان.
شعار العالم الافتراضي
من سيئات العالم الافتراضي أنه سمح للدهماء والغوغاء بأن تكون لهم كلمة مسموعة مهما كانت تافهة، وأن يكون لهم منبر يتكلمون منه. وبما أنهم كثر فقد صار بإمكانهم أن يتكتلوا في مجموعات كبيرة ليمارسوا نوعاً من سلطة التفاهة ضد كل مدون لا يعجبهم، حتى لو كان من أرقى الناس. وسيلتهم في الاعتراض الاعتراض الفظ والمسيء والمخل بالآداب وغير اللائق. في أدبيات الصحافة اللبنانية كلنا نتذكر أن شعار صحيفة “السفير” كان العبارة التالية: “صوت الذين لا صوت لهم”. أما اليوم فقد بات شعار العالم الافتراضي: “صوت للجميع”! أجل، تحول الفضاء الافتراضي إلى منبر للجميع حتى لمن لا يستحق أن يكون له منبر أو صوت. وهذا ما يفرض علينا، نحن المثقفين، تحدياً كبيراً في الأقل لإيجاد نوع من الإطيقا لتنظيم هذا التلاقي البشري العظيم.
الكتاب الفرنسي بالترجمة العربية (نيل وفرات)
هذا الانحدار في الثقافة وهذا التراجع في بناء الإنسان ترافقا مع انهيار سلطة الأهل، لا سيما انهيار سلطة الأب، مهما كانا صارمين منذ أن صار بيد الولد تليفون ينقله إلى العالم أجمع مع ما فيه من أشياء نافعة وأشياء ضارة! هنا لا بد من طرح السؤال التالي: هل مات الأب؟ نعم يبدو أنه مات وفقد سلطته! لقد مات الأب وأجهزت عليه التكنولوجيا. وما موته إلا حلقة في سلسلة: موت الله، وموت الإنسان، وموت الذات، وموت المؤلف… وموت الأب هذا ساعد في انتشار نظام التفاهة وتعميمه.
سلطة التفاهة
وعليه، فمع دخولنا عصر الفضاء الافتراضي تكتل التافهون في مجموعات افتراضية وتحولوا إلى سلطة تافهة، وذلك عندما لا تلتزم الدهماء والغوغاء إطيقا العالم الافتراضي وآدابه، تتحول إلى قطيع تافه وإن كان متعلماً. خطورة هذا القطيع أنه بات يمتلك سلطة بفعل عدده الكبير. هكذا يصير للتفاهة سلطة في عصر نظام التفاهة، فتؤثر في الحياة العامة عندما يتصدى لها الأوغاد. وليس مصادفة أن يسعى المرشحون للانتخابات الرئاسية في أميركا، الدولة العظمى، إلى استرضاء الناشطين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. وعليه نرى تراجعاً لقيم الحداثة، إذ باتت الديمقراطية تعمل ضد نفسها. وقد تنتج أحياناً ديمقراطية مضادة لأن الديمقراطية عندما ننزع عنها القيم التي تتضمنها وتصاحبها، تتحول إلى ديمقراطية رثة وفارغة. فالديمقراطية لا تنحصر في إواليات وآليات انتخابية فحسب، بل تتجلى أكثر في القيم الديمقراطية. وقد سبق للشعب الألماني في لحظة مأسوية وفارقة من تاريخه أن أنتج هتلر والنازية بآليات الديمقراطية نفسها. وهذا مما دفع دولوز وغتاري في كتابهما المشترك “الآنتي أوديب” إلى تحليل هذه الظاهرة بالقول إن الشعب الألماني رغب فعلاً في النازية. لذا، علينا البدء بدراسة العلاقات بين السلطة والتفاهة، لا أن نكتفي كما ذهب فوكو في مرحلته النسابية بدراسة العلاقات بين السلطة والمعرفة، لا سيما في كتابيه: المراقبة والمعاقبة، وإرادة المعرفة.
مهمة المثقف الافتراضي
ما يرمي إليه المثقف الافتراضي، في المبدأ، هو معارضة السلطة القائمة النازعة بطبيعتها إلى تجاوز حدودها، وذلك التزاماً منه مبادئ معينة من أجل السير بالمجتمع نحو الأفضل وتحقيق المصلحة العامة، وفي حالات معينة من أجل خير الإنسانية جمعاء. فالمثقف الافتراضي لديه “رسالة” وإن كانت متواضعة جداً، يريد إيصالها إلى المجتمع. أما التافه الافتراضي الذي هو فرد من مجموعات تافهة افتراضية تعتمد استراتيجية التدخل الجماعي المتعسف المباشر من أجل فرض رأيها وتوحيد تفاعلاتها على منشورات بعينها من منشورات العالم الافتراضي، فليس لديه ما يخسره وما يقوله. هو تافه من كل الجهات حتى لو كان متعلماً. هو كائن طفيلي فارغ لا يعيش إلا بالإساءة إلى الآخرين. لذا، يتجه إلى التكتل والاحتشاد في مجموعات من أجل تكوين نوع من السلطة القائمة على العدد والقطيع وعلى توحيد الموقف مهما كان مبتذلاً وسخيفاً، غايتها التصدي للمثقف الافتراضي وإيذاؤه وإهانته والإساءة إليه ونشر التفاهة في المجتمع وإشاعة اللامبالاة تجاه قضايا المجتمع وهمومه. وبما أن عدد التافهين الذين يرتادون مواقع التواصل الاجتماعي كبير جداً، وهم مستعدون للتعاون والتآزر في ما بينهم، فإن سلطتهم التي هي سلطة التفاهة، لا يستهان بها. وقد تكبر مع الزمن إذا لم يتصد لها المثقفون الجديون الافتراضيون. نحن لا نتكلم هنا على التفاهة المعممة ونظامها أو أنظومتها المبتذلة، بل على السلطة التي تنتج من نظام التفاهة المعمم هذا. وعليه، فالمطلوب اليوم من المثقف الافتراضي الذي ملأ الفراغ الذي تركه موت المثقف الكلي والمثقف النوعي والمثقف العضوي وجميع أنواع المثقفين الآخرين الذين سبقوه، أن يناضل ضد هؤلاء التافهين الذين يتحالفون مع أوغاد السياسة. وعليه، فإن على المثقف الافتراضي أن يحارب على جبهتين: ضد السلطة القائمة التي تنزع نحو الطغيان، فالمثقف الافتراضي لديه مشروع تغييري وإن كان متواضعاً جداً، ضد سلطة التفاهة، أو بالأحرى ضد التافهين الافتراضيين أو ضد العصبة الافتراضية أو القطيع الافتراضي. ولعل الحرب على الجبهة الثانية أشد ضراوة وشراسة من الحرب على الجبهة الأولى.
لقد تحول الفضاء الافتراضي بسرعة إلى ساحة عامة للحوار والنقاش والتلاقي بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي وحل محل الأغورا اليونانية. لذا، من الضروري أن نرسم إطيقا أو شرعة لهذا التواصل الإنساني حتى نحافظ على النبالة ولا ننقل الحرب من الواقع العيني إلى الواقع الافتراضي. وبإمكاننا القول إن كل حساب افتراضي هو بمنزلة منزل افتراضي يستضيف عدداً لا متناهياً من الضيوف ويحل ضيفاً على عدد لا متناه من المنازل الافتراضية. وليس من آداب الصداقة الافتراضية أن تسيء بصفتك مدوناً أو صاحب حساب، إلى من قبلك صديقاً عزيزاً على صفحته وضيفاً مكرماً في منزله الافتراضي، أو تسمح بالإساءة له على صفحتك من أي شخص كان! بإمكانك إذا كانت منشوراته وكتاباته لا تعجبك أن ترتاح من مشاهدتها، وأن تحذفه ببساطة من قائمة أصدقائك أو حتى أن تحظره. كما ليس من شرعة الأغورا الحديثة أن تتدخل بشكل تعسفي في ما يكتبه غيرك على صفحته، وأن تعترض عليه بطريقة فظة وغير مهذبة، مما يعني أنه لا علاقة لك بالصداقة لا من قريب ولا من بعيد، وأنك صاحب أيديولوجيا غير مقنعة وظلامية تريد أن تفرضها على الناس. ونلاحظ أن صاحب الأيديولوجيا، لا سيما صاحب الأيديولوجيا الدينية مهما كان انتماؤه بسيطاً إليها، لا يمكن أن ينتفع من المستنير بشيء، كما لا يمكن للمستنير أن ينتفع منه بشيء. هذا الفضاء الافتراضي الذي صار مكان تلاقينا إما نجعله واحة للسلام والنبالة والأخلاق الرفيعة، وإما لا يكون. فنحن نريد أن نرتقي لا أن ننحط ونتراجع.
عالم التكنولوجيا بعد 2023 ليس كما قبله
وعليه، بقوة دخل العالم الافتراضي حياتنا، وصرنا، بصورة أو بأخرى، من رواده الدائمين، بل والمقيمين فيه، حتى تكاد تكون حياتنا الافتراضية هي الحياة، وحياتنا العينية مجرد حياة ملحقة بحياتنا الافتراضية. لذا، وجب أن نفكر في الإطيقا أو شرعة الآداب الخاصة بهذا العالم إذا ما أردنا لحوارنا الافتراضي أن يكون جميلاً ومفيداً، حتى لا تسود الغوغاء والديماغوجية وتتحكم سلطة التفاهة بحياتنا. وقد أثبتت جائحة كورونا وما نتج منها من عزلة أن بإمكان الإنسان المعاصر أن يكتفي بالعيش في الحياة الافتراضية لمدة طويلة.
ينشئ كل شخص، من حيث المبدأ، حساباً أو حسابات خاصة به من أجل التلاقي والتعارف وإيصال رسالة يود إيصالها، ومن أجل إضافة مزيد من البهجة والمتعة والفرح على حياته وحياة أصدقائه. لكن، في الواقع، تحصل إساءات كثيرة تفرض علينا أن ننظم هذا العالم عبر آداب خاصة به. يأتي في طليعة الآداب أن يحظى المنشور الذي قرئ بتعليق أو في الأقل بتفاعل حتى نسهم في إيصال المنشور إلى أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، لا سيما إذا وجدناه بارزاً ومثيراً للانتباه. في المقابل على صاحب المنشور أن لا يتجاهل التعليقات على منشوره حتى لو لم تعجبه، فيتفاعل معها ويرد عليها إن كان ذلك ممكناً. ومن الآداب أن يكون المرور لائقاً محترماً ويحافظ على كرامة صاحب الحساب. وعندما لا يكون كذلك نلجأ إلى سلاحي الحذف والحظر. “قل كلمتك باحترام وامش!”. ذاك هو شعار الصداقة الافتراضية.
والاهتمام بالأصدقاء، بأفراحهم وأتراحهم ونجاحاتهم ومناسباتهم، وعدم التطفل عليهم باستسهال اللجوء إلى التواصل عبر الخاص من الآداب الافتراضية أيضاً. فالخاص لا يستحسن اللجوء إليه إلا بعد صداقة وتفاعل طويلين أو لأمر مهم، وليس بقصد التطفل والإزعاج والثرثرة واللغو. ويستحسن في المنشور أن يكون موجزاً قدر الإمكان حتى يمر عليه القارئ وحتى تصل الفكرة بسرعة إليه. فالتفاعل يقوى مع الأفكار الثاقبة والمختصرة. كما يستحسن في التعليق أن يكون قصيراً بقدر الإمكان. ولا بد من الأمانة في النقل والإشارة إلى صاحب المنشور الأصلي، إذ لا يجوز أن نسرق منشورات وننسبها إلى أنفسنا. كما علينا ألا نتناقل الأخبار إلا من مصادر موثوقة. ويستحسن عدم تناول الموضوعات الحساسة الخادشة للحياء إلا بطريقة ذكية جداً، والابتعاد عن ازدراء الأديان مع الحفاظ على جانب النقد حتى للأديان.
وأخيراً، لا بد من التعريف بالهوية عند طلب الصداقة، إذ لا يجوز أن تطلب الصداقة وليس في حسابك مما يدل على شخصيتك. وعليك أن تنظر إلى صفحة صديقك كما لو كانت منزلاً افتراضياً حللت ضيفاً مكرماً عليه. لذا، من الواجب أن لا تسيء إليه وألا تسمح لأحد بالإساءة إليه على صفحتك. إذاً، علينا أن نكون على مستوى المسؤولية التي يفرضها علينا واقع الفضاءات الافتراضية المعاصرة. فلا نكون مجرد أوغاد تافهين غايتنا الإساءة والإزعاج. ما نريده ليس أن ننتقل من تفاهة السلطة إلى سلطة التفاهة، بل أن ننتقل من تفاهة السلطة وشعبويتها وابتذالها وانحطاطها إلى سلطة الثقافة الافتراضية و”نخبويتها” بالمعنى الإيجابي. علينا أن نستغل ما أتاحته لنا التكنولوجيا لنصل إلى هذا المستوى الراقي من الحياة الافتراضية. وعليه، يجب الانتباه إلى هذه الظاهرة الحديثة التي أنتجتها التقنية المعاصرة والتصدي لها وأخذ المواقف منها، إذا ما أردنا للمجتمع أن يتقدم وأن يعيش بسلام.