المشروب السحري لحياة المغاربة
عبدالحق خرباش.. 16.04.2023
كاتب صحفي ومدير hakikanews.net
المصدر.. أميمة حدري
بعد أن كان حبيسا بين أسوار قصور السلاطين، داع صيته بين طبقات المجتمع. ليحتل الشاي المغربي مكانة خاصة في حياة المغاربة، صغيرهم قبل كبيرهم، وفقيرهم قبل غنيهم.
منذ أن تسلل هذا المشروب السحري لحياة المغاربة، ترسخ فيها وأصبح كطقس يومي مقدس، تلتئم حوله التجمعات على اختلافها، حتى باتت الجلسات العائلية، لا تكتمل إلا بالصينية الفضية. يتوسطها “البراد” الذي يعلو كعلو الجبال، بشموخ وكبرياء، فوق فوهات الكؤوس، ليملأها بمشروب سحري، تطفو عليه رغوة مميزة. ليسحر الحاضرين برائحته، التي ستحجز لها مكانا في ذاكرتهم العطرية، قبل مذاقه.
ولع المغاربة بالشاي جعله يتقدم على القهوة، ليصبح المشروب الأكثر احتساءا بالمغرب. وعنوان كرم الضيافة وجودها وحسن الاستقبال، حتى أضحى يتغنى به الشعراء والزجالون، ليصبح أنيس جلساتهم، وضابط أمزجتهم.
من أين بدأت قصة الشاي المغربي؟
تعتبر الصين أول بلد زرع حبوب الشاي، واستخدمه الصينيون كنوع من المشروبات الدوائية. لينسجوا عنه أساطير مشهورة، فقيل إن شينونج، الإمبراطور الأسطوري للصين كان يشرب الماء المغلي. حتى طارت بسبب الرياح بضعة أوراق من شجرة، ليتغيير لون الماء. وأخذ الإمبراطور رشفة من الماء، ليتفاجأ بطعمه المنعش ولذة نكهته.
وبعدما فتحت القارة العجوز أبوابها للمشروبات الجديدة القادمة من مختلف بقاع العالم. دخل الشاي معها الذي كان حكرا على الطبقات البورجوازية آنذاك وموضة عابرة بمختلف البلدان الأوروبية.
بعد ذلك وصل قطار الشاي لمحطة المغرب مطلع القرن الثامن عشر، في سياق مجموعة من الهدايا “سكر، شاي…” مقدمة إلى السلطان العلوي مولاي اسماعيل، من قبل المبعوثين الأوروبيين. وذلك تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين، حسب ما ورد في مقال لمجلة “دعوة الحق”.
بقي الشاي المغربي حكرا على الوسط المخزني قرنا بأكمله، مرتديا عباءة الطبيب، وظل استخدامه طوال الفترة المذكورة مقتصرا في العلاج والتطبيب، قبل أن يتم استهلاكه كشراب. إلى أن توسع قليلا ليشمل أغنياء وعلية القوم، نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.
وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، انتشر الشاي بين العوام في المدن، ولم يدخل بيوت المغاربة بشكل واسع إلا في مستهل القرن العشرين. أما فيما يخص عدة الشاي، فلم تكن آنذاك متوفرة في جميع البيوت، إلا في منازل قليلة، تلجأ إليها المنازل الأخرى عند الحاجة كالأفراح والأقراح والمناسبات.
من الشاي إلى أتاي
في السياق ذاته، يحكي كل من الكاتبين المغربيين عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان الخصاصي في كتابهما “من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ”. أنه كان للشاي يد في العديد من التحولات السياسية، والاقتصادية التي عرفها المغرب سابقا.
ففي القرن التاسع عشر، كان السلطان الحسن الأول يقدم الشاي والسكر والأواني الفضية، كهدية لزعماء القبائل الذين يرفضون الخضوع لسلطته. وسرعان ما أعلنوا عن ولائهم له، ما جعل السلطان يبسط نفوذه على هذه القبائل، دون حرب ولا سفك للدماء، وإنما بقوة طعم الأتاي المغربي.
وفي القرن نفسه، اقتبس المغاربة عادة تحلية الشاي من الإنجليزيين، وأضافوا لوصفته لمسة مغربية “النعناع”.
وفي نفس الإطار التاريخي، اكتشف الألمان سر سيطرة الفرنسيين على تجارة السكر في المغرب، الذي كان يكمن في أن المغاربة ألفوا شكل قالب السكر الفرنسي. ما جعلهم يحاولون تقليد شكله، لكن فرحتهم لم تكتمل بسبب تدخل القنصلية الفرنسية، التي منعت دخول البضاعة للأراضي المغربية وحجزتها في الموانئ. الشيء الذي أدخلهم في حرب باردة انتهت بعدما توصلوا إلى اتفاق عام 1885.
الأتاي بين الحلية والحرمة
سرعان ما انعتق الشاي من بين أسوار قصور السلاطين وبدأ ينتشر بين العامة. استأثر باهتمام رجال الفقه، باعتباره وافدا جديدا إلى المغرب. إذ سارع البعض منهم إلى تحريمه، والبعض الآخر اتخذ موقف الوسط. وقد جاء في الكتاب السالف الذكر، أن أحد رجال الدين في ذلك العصر، قال في إحدى فتاويه إنه نادم على شرب الشاي.
ومع مرور السنوات، اتخذ الشاي طريقه لبيوت المغاربة، ولازم جلساتهم وحفلاتهم، إلى أن امتزج صوت ارتطام قطرات الشاي بقاع الكؤوس، بصوت قرع الطبل والزغاريد المغربية.
الشاي المغربي والطقوس الملكية
على غرار طقوس احتسائه في البلدان الأوروبية الأخرى، كان للشاي في بلاط السلاطين تقاليد وطقوس خاصة ومميزة. بحيث كان يشرف على تحضيره وتقديمه لأفراد العائلة الملكية خدم يطلق عليهم بـ “موالين أتاي”، أي أصحاب الشاي. وكان أحمد بن مبارك الملقب بـ”أحمد مول أتاي”، أول من كلف بهذه المهمة.
يتجلى طقس تحضير الأتاي الملكي، في تحضير صينية الشاي الفضية، يتوسطها إبريق الشاي أي “البراد” باللجهة المغربية. وفي تناغم مع حافة الصينية، تستف الكؤوس التي توضع بأعداد أكبر من عدد الحاضرين. إلى جانبها صينية أصغر تضم ثلاث علب تسمى بـ “الربايع”، توضع فيها حبوب الشاي والسكر، والنسمات كالنعناع، الشيبة، واللويزة … ويجب أن يكون الماء معدا للغليان في سائر الأوقات تحسبا إذا أراد السلطان شرب الشاي.
طقوس إعداد الشاي في الثقافة المغربية
ارتبط شرب الشاي المغربي بعدة طقوس وتقاليد، فمهمة تحضيره تعد مقدسة، لا يكلف بها إلا من ذوي الشأن في القبيلة أو رب الأسرة. وفي حالة كان تحضير الشاي لمناسبة خاصة، تسند هذه المهمة لأكبر الحاضرين عمرا، ويسمى بالمقيم.
بعد أن يقدم للمقيم سطل فضي لغسل يديه، يسمى باللهجة المغربية بـ “الطاس”، توضع أمامه الصواني. ويأخذ المقدار المناسب من حبوب الشاي، ويضعها داخل “البراد”، وبعده يسكب القليل من الماء الساخن من “المقراج”، لتغسل الحبوب وتنقص مرارتها.
بعد ذلك يملأ “البراد” بالماء المغلي، ويضعه على نار هائة، ثم يضيف المقدار المناسب من السكر، بعدما أن تعودت أصابعه على اختيار الكمية الكافية ليبقى النعناع آخر ما يضاف.
يصب المقيم قطرات قليلة من الشاي في كأس حتى يتذوق حلاولته، وفي المرحلة الأخيرة يسكب ثلاثة كؤوس أو أكثر، ويعيدها للبراد، ويكرر العملية حتى تتساوى الحلاوة، وتفوح رائحة النعناع في الأرجاء. وبعدما أصبح الشاي جاهزا، وبحركة رشيقة من الأعلى، يسكب الشاي في الكؤوس، حتى تطفو الرغوة عليه. فكلما كانت الرغوة كثيرة، كلما كان الأتاي جيدا.
فإذا قادتك الأقدار يوما ما إلى المغرب، لا تنسى أن تضبط مزاجك وتستمتع بكأس من الشاي المنعنع، الذي سيبقى عالقا في حبل ذاكرتك.