انت خفيفة كتبتها سنة 2014 ..سامية الناجي
سامية الناجي
ليت البدر يفرح بزينة الشمس ظهر السهم مقوسا كالجنين، وكهلال بازغ أوقظ بريقه في لحظة الحين.. ثم زاد تقوسه متنكرا لضوء الشمس وضحاها العليل.. فكانت الشمس أكثر دهاء وحكمة، والهلال ألمى السماء، وتظلع بجبروته وكبريائه حتى قال للشمس: “أنت خفية…” بينما لمى ظل الشجر حساب السنين، فزاغ مظلة وثار ثورة الحمقى، ليصير خرير الريح أشد شراسة، كي يعمق من جراح خليله الذي نماه عنفوان السمر.. وأضحى الهلال قمرا، والقمر بدرا، أزاح لمي الليل، والشمس قائمة بارزة كعروس زينوها بزينة أريج الزهر، تارة خوصاء، شديدة الحر، وأحيانا تسلط دفئها وتزرع نورها حين تنجلي عن وجهها السحب، فتنزع بساط الظلام وعوازمه.. وما مداجاة القمر للشمس إلا غيرة وتطاول وتفاخر وتكابر.. دجا خلفها الليل واشتدت ظلمته، وقطع الوتين وانقطع وانتهت معه الحياة.. لقد طعن الهلال السهى في شموخ الشمس، وطعنت الشمس في بزوغ البدر، فولد المكر والخذلان.. وترهف البدر بعدما غاب هيدان الشمس، واستدار حنينا وشوقا، وأطل من نوافذ قد فتحت لاستقبال الرياح الآتية من الغرب، لعله يجد مكانا بين ثنايا البشر..فحمى الوطيس بينهما وقوى عنفه، وأروى البدر غليله، بينما الشمس الضليعة ظلت تراقب عن كتب.. وجحمت ونفرت عن حوار غريمها، لأنها ترى حجته ساذجة وغير بالغة، ولا ترقى للرقي والنبوغ.. فتغطرس القمر وعلا وأعجب بنفسه، فيما تعجرفت الشمس ورادفت هواها، واغتنت بريع لواء السماء.. وحفلت وغنيت ينيرونها في أول يوم له، وحفل دمع البدر وكثر وحشد حشودا تخافه صناديد الكواكب والأجرام والنيازك التي تحرق حين دخولها جهان الأرض.. وأنا من كل هذا ريم بحب الشمس، وريم حيث سعى وأقام البدر..
****
يا زورق البحر الهائج، ويا موج اليم الغاضب، ويا زبد الماء الأجاج.. أراك تسمعي ولا تبالي، وتلمحي ولا تردي، وتلمسي ولا تحسي.. زرعت العشق وففرت من عدوان الغيم المظلم التائه في قفر البيداء.. فكان العشق مطية، والغيم مزية، والفيافي سندي وظهيري.. وكان السمع أحمقا لا يطاق، والنظر أخبلا أفقرا، والحس أرضخا مذعنا.. وإن حمقي روع العاشقين، وخبلي زاد الغانمين، ورضوخي يفهمه العارفون.. والعاشق مؤنس بمعشوقه كأنس الأم بولدها، وتائه وسط الخيام التي تم طلاؤها بالطين.. والعارف خانته الذاكرة فظل يفكر في طلاء الخيام بالإسمنت لعلها تصمد في وجه الرياح الآتية من جهة الهيام.. والغانم فقد كل شيء، إلا خاتما من حديد رغب في إهدائه لمعلم الحب الذي علمه حب الناس والدنيا جميعا.. فأخذ المعلم الخاتم وترك تلميذه يئن كأنين المصاب بحمى شديدة، ثم عاد بعد ليل كان قد أرخى سدوله عليه، وأخبره قائلا: “سلام عليها إن قبلت سلامك، فإن كرهته فسلام على الأخرى…”.. وغابت حمى الغرام بعد جهاد مرير مع التنين المعتوه، الذي سماه المعلم “العشق المسموم”، ذلك السم الذي يدسه المعشوق في فؤاد عاشقه، كي يجعل قلبه يموت ببطء، فكان المعشوق مجرم بالطبيعة، ينتشي بارتكابه جرائم ملغومة.. لكن التلميذ العاشق قبل موته، أنشد أنشودة عنوانها: “ما دمت تحيا فالأمل حاضر والطموح محمود”.
****
أفعى الشهرة..
إن الذين يحاربون من أجل اقتناص أفعى الشهرة، غاياتهم مريرة، وأهدافهم غزيرة، وزلاتهم كثيرة.. كل المشاهير بلا استثناء جدوا واجتهدوا وكدوا حتى تمكنوا من اقتناص أفعى الشهرة، التي تطارد صاحبها في الحمام بل حتى في الأحلام.. لكنها لا تكتفي بهذا فتبدأ في بث سمها اللذيذ.. تدريجيا يعتقد الشهير أنه أكثر نبوغا وأكثر حكمة.. وأنه لا يضاهى مهما زل، وانهزم.. أفعى الشهرة هي التي تصنع الغارقين في متاهات التكبر، والتباهي فوق العادة اللامتناهية.. “فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ولكن كبرا أن يقال به كبر”.. أفعى الشهرة هي تحول عالي الهمة إلى متكبر، وصغير النفس إلى متنور، وعالم إلى مفرط.. أفعى الشهرة هي تحول السياسيين في العالم الثالث إلى قادة ملهمين ومنظرين.. قديما يحكى أن قيصر روما كان يعين موظفا يقف خلفه وهو يتلقى تمجيد الجماهير، ليقول: “تذكر أن رجل فان يا قيصر، تذكر أنك رجل فان يا قيصر..” ومع ذلك فقد ادعى أكثر من ذلك الألوهية، بل نصب حصانه إلاها.. هل رأيتهم شخصا استطاع أن يجمع بين الشهرة والسعادة ؟؟؟
****
أكتب كلما استنار لي الطريق، ولم يستول الشوك عن جنباته، وأكتب كلما توقفت الرمال عن التحرك، واستماتت حباتها مهما طال الريح وتعجرفت سيرتها، رغم استحالة هذا الموقف… إذا كتبت عن العشق.. فأنا عاشق ولهان.. وإذا جر قلمي عن الحب فأنا محب غارق فيه غرق الذي ركب البحر وهو هائج غضبان.. وإذا حملت ريشتي لأخطط عن المروءة أو الأدب أو الشعر أو المبادئ… ربما أجنح لهم أو ربما تنقصني غاياتهم وأهدافهم.. فأرغب في اقتناصهم، والسعي خلفهم، والتوبة لهم.. باختصار شديد: “أكتب فيما أنحني إليه.. وما ارتاح وجداني له.. وما أحس بلسعاته كل لحظة.. فلا أرتاح إلا إذا أخرجته من باطن قلبي.. وأكتب إذا ألمني إنسان بتصرفه الطائش، وكبره اللعين، وأنانيته الوقحة ونفاقه الجاحد.. وأكتب إذا أفرحني إنسان بمواقفه الرائعة، وكبريائه اللامع، وصدقه الصادق وآرائه الغالية في نفسي الناقصة.. وأكتب لأنني هكذا.. “فلا تسخرون إن فسد رأيي”، وزاغ قلمي عن الصواب، وأخطأت المراد.. ورحم الشاعر حين قال: “عين الرضا عن كل عيب كليلة.. وعين السخط تبدي المساوئ..” فلا كمال إلا لشريعته ولا عصمة إلا له…