عبدالحق خرباش.. 20.04.2023
كاتب صحفي ومدير hakikanews.net
تُبرز سجلات القضاء الجزائري في مجال محاربة الفساد، وجود ظاهرة طارئة على منحى الفساد واستغلال النفوذ والقرابات العائلية في الجزائر، إذ يتضح تورط عائلات بأكملها لكبار المسؤولين في الدولة والوزراء والموظفين الحكوميين، من زوجات وأبناء، إضافة إلى أقاربهم، وهو تطور لافت في نسق الفساد وتركيبته، مقارنة مع العقود السالفة التي لم تكن تظهر فيها العائلات السياسية.
فساد العائلات السياسية: لائحة تطول
في آخر قضية فساد يكشف عنها القضاء الجزائري، تمّ إيداع الوزير السابق للمؤسسات المصغرة، نسيم ضيافات، السجن المؤقت. لكن اللافت أن ضيافات ليس أول وزير من حكومات الرئيس عبد المجيد تبون يُسجن في قضية فساد، بكل ما يعنيه ذلك من استمرار مظاهر الفساد واستغلال المنصب الحكومي بالطريقة نفسها التي كانت قبل الحراك الشعبي. واللافت أيضاً كان امتداد التحقيقات القضائية إلى ثلاثة من أفراد عائلة الوزير السابق، زوجته وشقيقته وزوجة شقيقه. ويشتبه في استفادة هؤلاء من امتيازات غير قانونية دفعت إلى وضعهن تحت إجراءات الرقابة القضائية.
وهذا التطور يعزز من ظاهرة فساد العائلات السياسية، ويلقي الضوء مجدداً على سهولة استغلال عائلات المسؤولين والموظفين الحكوميين لمناصب أقربائهم للاستفادة بطريقة غير قانونية والحصول على امتيازات وصفقات تتعارض مع موجبات القانون وتشكل حالة فساد مكتملة الأركان، على الرغم من وجود تشريعات تمنع ما يوصف قانونياً بتعارض المصالح.
أحمد بلجيلالي: حالة الانفلات أصابت حتى مؤسسات مكافحة الفساد نفسها باليأس
قبل قضية الوزير ضيافات وأفراد من عائلته، كان القطب الجزائي الاقتصادي والمالي المتخصص في قضايا الفساد في محكمة سيدي أمحمد وسط العاصمة الجزائرية، قد أصدر في 4 إبريل/نيسان الحالي، حكماً بالسجن لمدة سبع سنوات حبساً نافذاً في حق وزير الصحة السابق عبد المالك بوضياف ونجليه وابنته بتهم الفساد والثراء غير المشروع، كما كانت زوجته قد لوحقت في القضية نفسها.
تقارير عربية
نهج جديد للرئاسة الجزائرية لتفسير قرارات تبون.. حملة انتخابية مبكرة؟
ومنذ عام 2019 يحفل سجلّ القضاء الجزائري بعدد كبير من قضايا الفساد التي تورط فيها وزراء وموظفون حكوميون ومسؤولون سياسيون، فرئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحيى تمّت إدانته في قضايا فساد برفقة نجله، كما لوحقت زوجته. وورد اسم ثلاثة من أفراد عائلة رئيس الحكومة السابق عبد المالك سلال، نجله وابنته وزوجته، وأدينوا في قضايا فساد وتربّح غير مشروع. كما لوحق المدير العام السابق للأمن، اللواء عبد الغاني هامل، وهو أحد أبرز رجالات نظام الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة في عدد من قضايا فساد، اتُهمت فيها أيضاً زوجته وأربعة من أبنائه، بتهمة التربح والثراء غير المشروع والحصول على امتيازات عقارية.
وتورط وزير الاتصالات السابق (توفي داخل السجن) موسى بن حمادي، في قضايا فساد رفقة عدد من أشقائه الذين يديرون شركة صناعات إلكترونية، وتم سجنهم لفترة. وقبل ذلك، كان وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، الذي يحمل أيضاً الجنسية الأميركية، قد سبق الجميع حينما كشفت التحقيقات القضائية عام 2016، عن تورط زوجته نجاة عرفات خليل، واثنين من أبنائه، بتهم الرشوة وتبييض الأموال وإبرام صفقات مخالفة لقانون الصفقات الجزائري، وتكوين شبكة للجريمة عابرة للحدود، وقد صدرت أحكام بالسجن في حقهم. ودان القضاء الجزائري للمرة الأولى وزير الخارجية السابق والقاضي والرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، محمد بجاوي، في قضية فساد برفقة ابن شقيقه، فريد بجاوي.
تبدل لافت في تركيبة قضايا الفساد
يمكن ذكر عدد لا حصر له من الأمثلة في هذا السياق، عن تورط عائلات بأكملها في قضايا فساد مالي ونهب للمال العام باستغلال النفوذ. ويؤشر ذلك إلى ثلاث مسائل، تتعلق الأولى بتغير لافت في تركيبة قضايا الفساد، إذ لم تعهد الجزائر هذا النوع من قضايا الفساد العائلي وبهذا الحجم الواسع قبل عام 2000، فقد كانت كل قضايا الفساد التي تطرح قبل ذلك، تخص لائحة من المسؤولين، من دون أن يكون أي من أفراد عائلاتهم ضمن لائحة المتورطين. ويعطي ذلك مؤشراً على الصعوبة التي كان يجدها المسؤولون في التمكين لمصالح أفراد من عائلاتهم وحرصهم على إبقاء عائلاتهم بعيدة نسبياً عن قضايا المصالح والأعمال.
لم تسلم قضايا الفساد داخل الأحزاب السياسية نفسها من تورط العائلات
وتتعلق الملاحظة الثانية باليُسر البالغ الذي وجده الوزراء والمسؤولون الحكوميون والسياسيون في الجزائر في إخضاع المؤسسات التابعة، لشبكات الفساد، من دون مقاومة، وسهولة النفاذ إلى المال العام والمصالح العمومية والتعاطي معها على أنها “غنائم” يمكن توزيع الاستفادات منها على المقربين، وفتح أنفاق داخل مغارة المال العام لصالح أفراد العائلة.
وتُبرز أوراق قضايا الفساد التي بتت فيها العدالة أيضاً، قيام المسؤولين الحكوميين بتبادل المصالح والامتيازات عبر تسوية الصفقات لصالح أفراد عائلاتهم. كما تخص الملاحظة الثالثة غياب أدوات الرقابة الإدارية والمالية وضعفها أمام سلطة المسؤول.
يطرح الخبير الاقتصادي النائب في البرلمان الجزائري أحمد بلجيلالي، تفسيرين لظاهرة فساد العائلات السياسية في الجزائر، موضحاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “هناك تفسيرات سياسية لهذه الظاهرة، تتعلق بأن استمرارية النظام السياسي كانت قائمة على متغيرات كثيرة، كلها مبنية على عامل توزيع الريع على العائلات السياسية وإشاعة الفساد، لدفعها إلى الاستماتة في الدفاع عن النظام السياسي، وضمان استمرارية النظام القائم”. ويضيف بلجيلالي أن “السلطة استخدمت حينها سواء بشكل مبرمج أو نتيجة التسيب الحاصل للمال والصفقات والمشاريع، وهذا فتح الباب واسعاً لاندماج عائلات بأكملها في الفساد”.
ويرى بلجيلالي أن “الأمر لم يكن يتعلق بغياب أدوات الرقابة، وهي أدوات كانت موجودة من حيث الترسانة القانونية وهيئات الرقابة، لكن الإشكال الحقيقي كان في تعطيل عمل هذه الأدوات لفترة ليست بالوجيزة، خصوصاً في الفترة السابقة، حين ظهر بشكل جلي تغلغل شبكات الفساد واندماجها في المجالات المالية والسياسية والإعلامية والمجتمعية”. وبرأيه، فإن “هذا خلّف حالة من الانفلات جرّت عائلات الوزراء والمسؤولين إلى الاندماج في شبكات الفساد، لدرجة أن مؤسسات مكافحة الفساد نفسها أصيبت باليأس”.
ولم تسلم قضايا الفساد داخل الأحزاب السياسية نفسها من تورط العائلات. أبرز هذه القضايا كانت تلك التي تورط فيها الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس (وزير التضامن سابقاً)، ونجلاه اسكندر والوافي ولد عباس، واللذان كانا يقومان باستغلال منصب والدهما لابتزاز الراغبين في الترشح في قوائم الحزب والتلاعب بالانتخابات النيابية التي جرت عام 2017، وتمت إدانة ثلاثتهم إضافة إلى متهمين آخرين.
وبالقدر نفسه، تبرز أيضاً في أوساط مجتمع المال والأعمال في الجزائر توسع نسق الفساد إلى استفادات لمجمل أفراد العائلات البارزة في الكارتل المالي في عهد بوتفليقة، والذي جرى تفكيكه لاحقاً بعد الحراك الشعبي الذي اندلع في فبراير/شباط 2019. ويبرز في السياق تورط الإخوة حداد، بقيادة علي حداد زعيم الكارتل المالي، وعائلة طحكوت التي كانت تملك مصنعاً للسيارات وآلاف الحافلات لنقل الطلبة، والإخوة عولمي الذين كانوا ينشطون في قطاعات عدة بينها صناعة السيارات.
ويطرح خبراء في القانون مسألة الحاجة لتطوير تشريعات تخص التصريح بالأملاك لعائلة المسؤولين بعد توليهم المسؤولية وتشديد منع تعارض المصالح، للحد من الفساد واستغلال النفود الذي يتم بطرق مختلفة.
ويقول المحامي الخبير في القانون الجنائي عبد الرحمن صالح، لـ”العربي الجديد”، إنه “أمام التهرب الذي مارسه بعض المسؤولين بتقييد ممتلكات وعائدات غير مشروعة بأسماء عائلاتهم وأقاربهم، يقودنا هذا إلى مناقشة مقترح توسيع وجوب التصريح بأملاك عائلات المسؤولين قبل وبعد تولي المسؤولية من قبل هؤلاء، ولو أنه يطرح إشكالية درجة القرابة التي يعتدّ بها لإيداع هذه التصريحات”.
عبد الرحمن صالح: يجب مناقشة مقترح توسيع وجوب التصريح بأملاك عائلات المسؤولين قبل وبعد تولي المسؤولية
ويلفت صالح إلى مسألة من يستغل الآخر، الوزير والمسؤول أم أفراد عائلته على مستوى النفوذ. ويلاحظ الخبير أن “ظاهرة فساد العائلات السياسية، كموجة، تسير بشكل عكسي، أي بدلاً من أن يبدأ الفساد من المسؤول ثم ينتقل إلى أقاربه نرى العكس، أي أن أقارب المسؤولين يبدؤون في الاستفادة من التسهيلات التي يمكنهم الحصول عليها باستغلال النفوذ وأحيانا الاسم فقط، والأمر يتعلق باستغلال الحصانة التي يمنحها المنصب من أجل القفز على القوانين والتشريعات الموجودة”. ويتابع: “منذ سنوات كنا نتحدث عن ظهور بشكل سافر لظاهرة اغتناء أبناء المسؤولين وممارستهم لنشاطات تجارية مرتبطة بمجال عمل ذويهم، وقلنا حينها إن ذلك سيكون سببا في سقوط هؤلاء المسؤولين وقد كان”.
وفي يناير/كانون الثاني 2022، أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون استحداث هيئة “من أين لك هذا”، لمحاربة الفساد والثراء غير المشروع لدى الموظفين العموميين، بلا استثناء، من خلال إجراءات قانونية صارمة لمحاربة الفساد، عملا بمبدأ “من أين لك هذا”. كما استحدث هيئة أخرى لمكافحة الفساد بعنوان السلطة الوطنية العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، تتولى التحري عن المواطنين الذين تطرأ عليهم مظاهر الثراء المفاجئ من دون وضوح مصادره.
وتضاف هذه الهيئات إلى أربع هيئات رقابية لمكافحة الفساد، هي الديوان المركزي لقمع الفساد الذي أنشأ عام 2006، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي باتت هيئة دستورية منذ تشرين الثاني 2020، إضافة إلى مجلس محاسبة والمفتشية العامة المالية.