كاتب صحفي ومدير النشرللجريدة حقيقة نيوز.نت
العربي الجديد ..47 في المائة من مصادر التلوث الرقمي تنجم عن تصنيع المعدات الإلكترونية
الحديث في الآونة الأخيرة عن آثار التغير المناخي، وعن الكوارث المتسارعة التي تُهدّد البشرية. حسب العلماء والخبراء في المجال البيئي، لم يعد التحذير من ترك المياه تتدفّق عند غسل الأسنان على رأس أولويات الحلول. تراكميّة الأفعال الفردية الواعية لمخاطر الأزمة أمر ضروري، لكنها ليست بالأمر الكافي. قضايا التغير المناخي أكثر تعقيداً من أن يتحمّل الأفراد أو حتى الدول النامية مسؤولية حلّها. الثقل الأكبر واقعٌ على الدول الأكثر تقدماً، كبار الأثرياء حول العالم وكبرى الشركات، وعبر اعتماد سياسات بيئية مُحدّدة، قادرون على اللحاق بالكوكب وربما التمكّن من إنقاذه عبر الحدّ من آثار التغير المناخي.
لكن التغيّر المتسارع في أنماط العيش جعل من مصادر التلويث أكثر تنوّعاً وأعاد إلى الضوء المسؤوليات الفردية. أمّا التركيز على فكرة وجود لاعبين مركزيين في هذه الأزمة فهو للإضاءة، من جديد، على أن قضايا العدالة والفوارق الطبقية هم في صلب أزمة التغير المناخي. ولكن ما هي هذه المسؤوليات الفردية المُستجدّة؟ وما الذي تغيّر أو تجدّد بعد التوسع الكبير للتكنولوجيا، وأكثر تحديداً شبكة الإنترنت، واقتحامها تفاصيل حياتنا اليومية؟ وهل الرقمي هو في الواقع تلك الصناعة النظيفة التي ستُخفّف عن الكوكب من ثقل التلوث؟
راج طويلاً اعتقاد عام، لا أساس علمياً له، عن تماشي الصناعة الرقمية مع سياسات مكافحة الاحتباس الحراري، وذلك لخصوصيتها “غير المادية” التي قد توحي بها. لكن يتصدى باحثون ومتخصصون في المجال لهذه النظرية الشائعة، ليحذروا بصورة مستمرّة ومتصاعدة من خطورة الرقمي على البيئة. أرقام وإحصاءات تُشكّل أرضيّة صلبة لقصة قصيرة حزينة عنوانها التلوث الرقمي. بوابة العبور هذه، من وإلى عوالم أخرى، لم يعد من الممكن الانفصال عنها، يتعاظم ارتباطنا بها، وهو ما يظهر بوضوح في الأرقام والإحصاءات.
في دقيقة واحدة
يقوم كل من لوري لويس وشاد كالاهان، وهما متخصّصان من الولايات المتحدة الأميركية في المجال الرقمي، بدراسة ما يجري على شبكة الإنترنت في دقيقة واحدة. ويقومان بنشر هذه الأرقام سنويّاً. وهنا الدقيقة تأتي بمعناها الحرفي، أي ستون ثانية.
ما الذي جاء في أرقام عام 2021 الأخيرة؟ وما الذي يجري على شبكة الإنترنت خلال دقيقة؟
يتمّ إرسال 21،1 مليون رسالة نصية
69 مليون رسالة عبر تطبيقي فيسبوك وواتساب
1،6 مليون دولار يتمّ دفعها للشراء عبر المواقع التجارية أونلاين
197،6 مليون رسالة عبر الإيميل
يتمّ نشر 200 ألف تغريدة عبر موقع تويتر
يتّصل 1،4 مليون شخص بتطبيق فيسبوك
هذه الأرقام سترتفع حتماً في عام 2022، إذ تكفي ملاحظة التحوّلات المستمرة في علاقتنا كأفراد أو في حاجتنا المتزايدة للرقمي في تسيير مختلف أمور حياتنا المهنية أو الاجتماعية وغيرها… هذا الإحصاء نفسه، ارتفعت نتائج أرقامه بشكل ملحوظ عن تلك في عام 2020، التي نشرها الصحافي الفرنسي غييوم بيترون في كتابه “جهنم العالم الرقمي”.
التلوث الأخضر
ولكن ما هو هذا التلوث؟ وكيف نساهم في ازدياد أثره من خلال نشاطنا الدوري عبر الإنترنت؟
حسب تعريف منظمة “السلام الأخضر” البيئية (غرينبيس) التلوث الرقمي يتضمّن جميع أشكال التلوث الناجمة عن قطاع تكنولوجيا المعلومات. وهو ما يحتوي على: انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتلوث الكيميائي، وتآكل التنوع البيولوجي وإنتاج النفايات الإلكترونية. معظم هذا التلوث، يتمحور حول عملية تصنيع المعدات، وليس عند استخدامها. لهذا يحثّون على استخدام عدد أقلّ من المعدات الإلكترونية، ومحاولة إطالة حياتها قدر الإمكان تفادياً لتزايد عمليات التصنيع. وحسب تقرير لمنظمة “ذا شيفت بروجيكت”، المنشور في عام 2018، حول التأثير الرقمي على البيئة، تظهر أرقام الأثر البيئي بشكل أوضح. فاستهلاك الصناعة الرقمية العالمية للمياه، والمواد والطاقة يبلغ أثره ثلاثة أضعاف ما يتركه من أثر استهلاك دولتين لها مثل فرنسا وبريطانيا. وحسب التقرير، تستهلك التكنولوجيا الرقمية 10 في المائة من مجمل إنتاج الكهرباء (الطاقة) حول العالم، كما ينتج عنها ما يُقارب الـ 4 في المائة من مجمل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون العالمية، وهو ما يفوق ما ينتج عن قطاع الطيران المدني العالمي.
توقعات عدة باحتفاظ المنتخب الفرنسي باللقب (فرانك فيف/ فرانس برس)
حول العالم
كأس العالم 2022: الذكاء الاصطناعي يتوقّع الفائز
ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بحلول عام 2025، ليصل إلى 8 في المائة، وهو ما سيفوق الانبعاثات الناجمة عن السيارات. أمّا الحاجة إلى هذا الكمّ من الطاقة، فيتحمّل الأفراد جزءاً منه وذلك عبر استهلاكهم لأصغر خدمات هذا العالم الرقمي (التي تبدو صغيرة، ولكن أثرها في الواقع كبير). استسهال إرسال الرسائل عبر البريد الإلكتروني، وضمناً هذا النصّ الذي سيتمّ إرساله عبر البريد الإلكتروني يحمل أثراً سلبياً على البيئة. وهنا بعض الأرقام التي قد تشرح فداحة الواقع:
إرسال إيميل واحد يستهلك طاقة بمقدار ما يحتاجه تشغيل الإنارة في غرفة واحدة لمدة 25 دقيقة
تحميل النسخة الرقمية من صحيفتك المفضلة فيستهلك طاقة تشغيل غسالة الثياب لمرة واحدة
تشغيل الفيديوهات عبر يوتيوب له أرقامه الخاصة والمُخيفة. لنأخذ على سبيل المثال فيديو الأغنية الشهيرة “غانغام ستايل”، الذي وصل عدد مشاهداته إلى أرقام خيالية. مشاهدته 2،7 مليار مرة نتج عنها استهلاك للكهرباء بما يُعادل ما يحتاجه معمل صغير لإنتاج الطاقة النووية سنويّاً
وهذا ما ينسحب على كلّ حركة بسيطة على الشبكة، من كبسة إعجاب على منشور فيسبوكي أو تغريدة عبر موقع تويتر… وصولاً إلى الانتقال بشكل عفوي لساعات بين فيديوهات القطط والمعجنات على إنستغرام أو تيك توك.
عملية متكاملة
هذا يعود إلى أنّ شبكة الإنترنت لا تعمل بسحر ساحر، بل هي عمليّة متكاملة، تبدأ من تصنيع المعدات واستخدامها اليومي، وحاجتها في الوصول إلى المستخدم، والذهاب من مراكز حفظ البيانات لكي تعمل بشكلها الحالي. 47 في المائة من مصادر التلوث الرقمي تنجم عن تصنيع المعدات الإلكترونية، 28 في المائة من البنى التحتية للشبكات والـ 25 في المائة المتبقية تنتج عن مراكز حفظ البيانات. المسؤولية الفردية قد تبدأ من الاستهلاك المتزايد، والسعي الدائم لامتلاك أدوات إلكترونية جديدة. في عام 2019، تمّ إحصاء ما مجموعه 34 ملياراً من المعدات الرقمية على كوكب الأرض، وهو رقم يخصّ 4.1 مليارات فرد. ما يجعل متوسط الفرد الواحد ثمانية أجهزة، تنقسم ما بين كاميرات إلكترونية وهواتف نقالة وأجهزة كومبيوتر… لهذا ربما، علينا التفكير لأكثر من مرة، ونحن نستخدم الإنترنت أو خلال تجديد هواتفنا النقالة وأجهزة الكومبيوتر. هذا التجوّل الرقمي الذي يبدو مُعلّقاً في الفضاء، لا تكمن خطورته في أثره الواضح والمباشر، لكنه في حقيقة الأمر هو عملية متكاملة لها أثرها الكبير في تعميق أزمة التغير المناخي.
خلف هذه الشبكة استيلاء على الأراضي والغابات (من الأسباب الرئيسية للأزمة البيئية) وتحويلها إلى مراكز من باطون، قادرة على حفظ هذا الكمّ من الداتا حول العالم وتشغيل هذه الصناعة. مساحات مخصصة أصلاً للزراعة، تصير بسحر ساحر مراكز لحفظ أنفاسنا على شبكة الإنترنت، لنعتقد أنّها تقيم هناك في غيمة كبيرة غير مرئية. هذه الغيمة تُدمّر الكوكب