كلمة رئيس النيابة العامة بالمؤتمر الوطني الأول لموثقي المغرب
بسم الله الرحمان الرحيم.
حضرات السيدات والسادة؛
يطيب لي بمناسبة افتتاح أشغال هذا المؤتمر الوطني الأول لموثقي المغرب حول موضوع “المملكة الغربية التعاون الأورو –إفريقي : التوثيق قوة اقتراحية”. أن أعرب لكم عن الفخر والاعتزاز الذي يغمرني وأنا أشارك معكم في هذا اللقاء المهني المتميز.
والشكرُ واجبٌ لكل من فكّر وأعَدَّ أو ساهم في تنظيم هذا المؤتمر. وأخصُّ بالذكر المجلسَ الوطني لهيئة الموثقين بالمغرب ورئيسَه الفاضل المحترم الأستاذ عبد اللطيف يكو، وأعضاءه الأجلاء من موثقات وموثقين.
كما أني أستغل المناسبة لأرحب بضيوف المملكة المغربية من كل الدول الشقيقة والصديقة الذين تجشموا أعباء السفر للإسهام في هذا الملتقى الواعد، والذي سيسهم بلا شك في بناء روابط قوية ومتينة بين الموثقين من الدول المشاركة، ويساعد على انتقال الممارسات الحميدة والتجارب الفضلى للمهنة بين الأقطار والدول.
والفضل يرجع لرئيس وأعضاء الهيأة الوطنية للموثقين، الذين أتاحوا للموثقين المغاربة، ولكثيرِ من المهتمين بشؤون التوثيق في ظرف بضعة أشهر، فرصةَ الاجتماع للمرة الثانية للتفكير المشترك، ولتبادل الآراء في أمور مهنة التوثيق. وهو ما يعبر عن صحوة فكرية نادرة المثال لدى المنتسبين للمهنة بهذا البلد الأمين.
وليس بعزيز على مؤسسة التوثيق أن تكون وراء هذه المبادرة الهامة وهي حاملةُ لواءِ الأمنِ التعاقدي، ورافعةٌ أساسيةٌ للحفاظ على الحقوق وتحقيقِ التنمية المجتمعية، مِنْ خلال ما توفِّرُه من حمايةٍ للملكية، وضمانٍ لاستقرار المعاملات، وتشجيعٍ للاستثمار. كما أنها لا محالة قوةٌ فاعلةٌ متميزةٌ لتعزيز التعاون المغربي الأورو – إفريقي.
حضرات السيدات والسادة،
إن اختيار موضوع التوثيق كقوة اقتراحية للتعاون الأورو- إفريقي كمحور لهذا اللقاء، ينسجم لا محالة مع السياسة العامة للمملكة المغربية التي حدد معالمها الكبرى جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، بخصوص علاقة المغرب بدول إفريقيا القارة التي ننتمي إليها وتمتد جذور المغرب بعيداً في أعماقها. وهو ما تعكسه السياسة الملكية الحكيمة، عبر مساهمة المملكة في بناء وتطوير الاقتصاد الإفريقي، وتحسين أحوال السكان، ونقل التجارب المفيدة في مجال التنمية البشرية، والتي يسهر عليها جلالة الملك شخصياً، ويؤكدها عدد الرحلات التي قام بها جلالته لدول إفريقيا والتي تجاوزت خمسين زيارة. في وفاء من جلالته حفظه الله لمقولة والده الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله “إن المغرب شجرة، جذورها في افريقيا، وأغصانها في أروبا”.
ولذلك فإن المغرب المعتز بانتمائه الإفريقي، يعتز كذلك بعلاقاته المتميزة مع دول المجال الأوروبي، وبشراكاته المتقدمة مع الاتحاد الأوروبي كمجموعة، ومع الكثير من الدول الأروبية. وهي علاقات تجد منابعها في التاريخ والجغرافية، حيث تمتد العلاقات المغربية الأوروبية لعدة قرون مضت، ساهم الوضع الجغرافي لبلدنا المطل على أوروبا في تنْمِيَتها، عبر تكثيف اللقاءات والاتصالات وانتقال الأشخاص من ضفة إلى أخرى بين ضفتي المتوسط. ولذلك ما فتئ جلالة الملك، يدعو في خطبه إلى الحفاظ على أواصر الترابط المتينة والتاريخية، التي تربط المغرب بأوروبا وبإفريقيا. فقد جاء في خطاب جلالته الموجه إلى الأمة بمناسبة ذكرى عيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليوز 2013 : “واصلت المملكة استراتيجيتها الانفتاحية، والمبنية على التفاعل الإيجابي، مع شركائها الأوروبيين. بهدف توطيد أكثر للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، في إطار الوضع المتقدم، الذي يتميز به المغرب، وذلك من خلال فتح آفاق جديدة وواعدة، لهذا التعاون”.
كما عبر جلالته على العمق الإفريقي في السياسة المغربية بالقول السامي في ذكرى 20 غشت 2017 : “ترتكز سياستنا القارية على معرفة دقيقة بالواقع الإفريقي، أكدتها أكثر من خمسين زيارة لأزيد من تسعة وعشرين دولة، منها أربعة عشر دولة، منذ أكتوبر الماضي، وعلى المصالح المشتركة، من خلال شراكات تضامنية رابح-رابح. وخير مثال على هذا التوجه الملموس، المشاريع التنموية الكبرى التي أطلقناها، كأنبوب الغاز الأطلسي نيجيريا المغرب، وبناء مركبات لإنتاج الأسمدة بكل من أثيوبيا ونيجيريا، وكذا انجاز برامج التنمية البشرية لتحسين ظروف عيش المواطن الإفريقي، كالمرافق الصحية ومؤسسات التكوين المهني وقرى الصيادين. وقد تكللت هذه السياسة بتعزيز شراكاتنا الاقتصادية، ورجوع المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، والموافقة المبدئية على انضمامه للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا”. انتهى النطق الملكي السامي.
حضرات السيدات والسادة؛
إن العلاقات الأورو- إفريقية، التي يحظى المغرب بدور متميز في بنائها واستقرارها، لا تتوقف على الجوانب السياسية والاقتصادية وحدها، ولكنها تجعل من التنمية الاقتصادية وسيلة للتنمية الاجتماعية وتحسين الأوضاع المعيشية للساكنة. وهو ما يعطي لمهنة التوثيق موقعاً متقدماً في مجال دعم العلاقات الأورو-إفريقية. بالنظر للدور الذي يلعبه التوثيق في مجال تأمين العلاقات القانونية، والحفاظ على المصالح المالية والاقتصادية، وتوفير الأمن العقار ي للأطراف. وهو ما يجعل من مهنة التوثيق حلقة رئيسية لتمتين التعاون الأورو -افريقي، يحظى فيها الموثق المغربي بشرف حمل لواء التقارب بين الموثقين في القارتين الجارتين، ويسهم إلى جانب هيئات الموثقين بالدول الإفريقية والأوروبية في تسهيل تبادل الخبرات، وتداول أجود الممارسات، وتبسيط الإجراءات، وتعزيز آليات الحماية والأمن التعاقدي، التي تشجع على استثمار وانتقال رؤوس الأموال وإنعاش سوق الشغل.
وقد لعب التوثيق على مر التاريخ دوراً مهماً في تطوير الحياة الاقتصادية للدول، وهو بحق أساس “لبناء الثقة في المبادلات التجارية، وضمانة” لأمن انتقال الملكية إلى أصحابها، ومنصة للإرشاد وإسداء النصح لأطراف العقود.
ومما لا شك فيه أن اضطلاع مهنة التوثيق بهذه الأدوار، في عالم يعرف تحولات عميقة متسارعة في المجال المعلوماتي والتكنولوجي، مدعاةٌ لضرورة انخراط نساء ورجال هذه المهنة في تحديث طرق اشتغالها ومعارفها لرفع تحديات العولمة.
كما أن مهنة التوثيق مدعوة في هذا السياق لتحفيز نظم المعاملات الالكترونية، التي أصبحت دعامة أساسية لضبط وإثبات المعاملات، مع تقصي أنجع السبل القانونية لمواجهة الصعوبات والإكراهات التي تطرحها هذه المعاملات، بخصوص تأمين وحماية الأنظمة الإلكترونية المتعلقة بالتعاقد، التي أصبحت ضرورة وظيفية، ولكنها لا تخلو من تهديدات حقيقية على الأمن التعاقدي. وهو الأمر الذي يزيد من مسؤولية الموثق في وقتنا الراهن، ويدعوه إلى التكوين المستمر، والاطلاع والتمكن من أحدث التقنيات لتوثيق العقود الإلكترونية وحفظها حماية للمتعاقدين، وللمجال الاقتصادي والاجتماعي الذي تتم فيه المعاملات. سيما وأن مهنة التوثيق لا يقتصر نشاطها على العمل المحلي في إنجاز العقود، وإنما يخترق البعد الجغرافي بين الدول، ويكون لها بذلك إسهام في بناء سليم للعلاقات الدولية، والمساهمة في بناء حياة اقتصادية آمنة تشجع على الاستثمار وتبادل الخبرات بين الدول.
حضرات السيدات والسادة؛
إن البعد الإستراتيجي لمهنة التوثيق، مرتبط بالتطور الاقتصادي والتنموي والتكنولوجي الذي يعرفه العالم، وما له من أثر في استقرار المعاملات والحد من المنازعات وحفظ الحقوق سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وهي محكومة في ذلك بالقوانين التي قد تتطلب من وقت لآخر تطويرها والوقوف على مكامن الخلل التي تعتريها، ووضع قواعد جديدة، تقدم أجوبة لكل الاختلالات المرصودة. كما أن المهنة مدعوة لتحصين نفسها عن طريق الالتزام والحفاظ على منظومة القيم الأخلاقية التي كرستها أعرافها وتقاليدها عبر ما راكمته من تجارب على مر السنين. وأن دور هيئات الموثقين الأكبر، يتجسد في صمودها وثباتها في التصدي للاختلالات المهنية الماسة بشرف المهنة القائم على الأمن والأمانة.
ولا أشك أن المنتمين إلى المهنة يعون جسامة مسؤوليتهم، ويقدرون أهمية دورهم في تأمين العلاقات الاجتماعية، وتحقيق الأمن الاقتصادي وأنهم يسعون بكل جدية للحفاظ على هذه المقومات بين صفوفهم.
حضرات السيدات والسادة؛
إن رئاسة النيابة العامة التي تتشرف بالحضور معكم في هذا اللقاء المبارك، لتؤكد لكم دعمها التام لكل الجهود الرامية إلى حماية مهنة التوثيق والدفاع عن قيمها ودعم جهود التخليق في صفوفها. كما أنها تصطف إلى جانبكم للضرب بشدة على كل الاعتداءات على أمن وسلامة الوثيقة التوثيقية أو المساس بمصداقيتها، وأن أعضاء النيابة العامة رهن إشارتكم لبذل الجهود الممكنة لتحقيق هذه الغايات، في إطار الصلاحيات التي يخولها لهم القانون. كما ستجدونهم دائماً إلى جانبكم في كل المساعي التي تودون بذلها لتطوير المهنة والحفاظ على قيمها النبيلة.
أرجو لكم مزيداً من التوفيق وأتمنى أن يكلـل هذا اللقاءُ بالنجاح، وأن يُسْفِر عن أفكارٍ وتوصيات مفيدة لمهنة التوثيق في بعدها العام، وكذلك في مساعيها للتقريب بين الفضائين الأوروبي والإفريقي.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض
رئيس النيابة العامة