عبدالحق خرباش..01.10.2022
مديرالنشر وكاتب
أ ف ب
شاكر جرّار
نهاية آب الماضي، شنّ الجيش الأوكراني هجومًا مضادًا على مقاطعتيْ خاركيف في الشمال الشرقي وخيرسون في الجنوب. قبل الهجوم، قُدِّر عدد القوات الروسية في أوكرانيا بـ200 ألف، نصفهم من الجنود النظاميين الروس، والنصف الآخر من القوات الشيشانية وقوات دونباس ومليشيات أخرى. ومع اتساع المساحة التي تسيطر عليها القوات الروسية، وصل طول خط التماس بين الطرفين إلى أكثر من ألف كيلومتر. وفقًا للخطة الروسية الأصلية، لم تكن روسيا بحاجة إلى التعبئة، إذ عرّف بوتين الصراع بـ«عملية عسكرية خاصة»، وليس حربًا رسمية. لكن مع امتداد خط الجبهات، انتقد العديد من القوميين الروس بوتين لعدم إعلانه التعبئة العامة، مشككين بإمكانية المحافظة على هذا الخط الأمامي العريض بهذا العدد من القوات.
كان هجوم الجيش الأوكراني موجهًا بشكل رئيس نحو مقاطعة خيرسون، إذ حُشد العدد الأكبر من القوات على هذه الجبهة، مقابل عدد أقل بكثير على جبهة خاركيف. خيرسون أهم للطرفين؛ فهي تحتوي على خزان كاخوفكا، ثاني أكبر خزان مائي في أوكرانيا، وتنبع أهميته لا من كونه المصدر المائي لشبه جزيرة القرم فحسب، بل من كونه يوفر مياه التبريد لمحطة الطاقة النووية في مقاطعة زاباروجيا التي تسيطر عليها القوات الروسية كذلك. في الوقت نفسه، يعد هذا السطح المائي الواسع بالنسبة للجيش الروسي حاجزًا طبيعيًا دفاعيًا عن زاباروجيا، التي تقع في الشمال الشرقي لخيرسون. منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، قطعت خيرسون إمدادات المياه عن شبه الجزيرة، ممّا اضطر روسيا إلى شحن المياه إليها بكلف عالية. لذا، كانت خيرسون من أولى المناطق التي استولى عليها الجيش الروسي منذ اندلاع الحرب. أما بالنسبة لأوكرانيا، لخيرسون أهمية كبيرة من الناحية العسكرية، فاستعادتها لا تعني إعادة تهديد القرم فحسب، بل أيضًا قطع الطريق على الجيش الروسي وحماية ميكولاييف وأوديسا، وهما آخر مدينتين ساحليتين رئيسيتين ما تزالان تحت السيطرة الأوكرانية، أي أن خسارتهما تعني تحويل أوكرانيا إلى بلد حبيس بالكامل، بلا أي منفذ ساحلي.
يمكن فهم أمر التعبئة والاستفتاءات في سياق واحد: بالنسبة لروسيا، الذهاب للاستفتاء يعني إعلان انتصار تحقق في الأشهر السبعة الماضية، وفي الوقت نفسه، يحل مشكلة نقص القوة العسكرية عبر تدفق المجندين من هذه المقاطعات أو من روسيا إليها
مع الهجوم المضاد على خيرسون، نقلت روسيا العديد من قواتها إليها، لتتركّز بشكل رئيس في إقليم دونباس وخيرسون، كما نقلت عددًا من قوات النخبة من دونباس إلى خيرسون لتعزيز خطوط الدفاع. بالطبع، كانت عمليات نقل الجنود وإعادة تمركزهم تتم تحت أعين الناتو وأجهزته، وفي حرب أشبه بالحرب التقليدية، تشكل المعلومات الدقيقة سلاحًا أكثر فعالية من الكثير من الأسلحة. وبما أن الجبهة طويلة للغاية والقوات غير كافية، يعد التفوق في الاستطلاع والاستخبارات أمرًا في غاية الأهمية، ليس فقط من أجل إيجاد ثغرات في خط دفاع الخصم، ولكن أيضًا لتنظيم هجومٍ فعال في الوقت المناسب. هذا ما حدث في السادس من أيلول، حين شن الجيش الأوكراني فجأة هجومًا على جبهة خاركيف بأعداد كبيرة، مستغلًا النقص في القوات الروسية، ليستولي على عدد من البلدات ومساحات واسعة من الأراضي بسلاسة ودون أن يخوض الطرفان قتالًا عنيفًا.
في بداية الحرب، كان يمكن للجيش الروسي تعويض النقص في القوات بتفوقه في القوة النارية، خاصة مع سعي روسيا لإبقاء المعركة في مستوى منخفض وعدم تصعيدها لحرب شاملة تتطلب أعدادًا أكبر من الجنود. لكن مع توسع المناطق التي يسيطر عليها الروس وامتداد خط المواجهة وتطور القدرات الاستطلاعية والعسكرية الأوكرانية بمساعدة الناتو والولايات المتحدة، والتفوق العددي للقوات الأوكرانية التي بلغت، بعد عدة جولات من التعبئة الوطنية، 700 ألف جندي، لم يعد حجم القوات الروسية كافيًا للاستمرار في الحرب.
مقاطعات جديدة، جنود جدد
بعد أيام من هجوم خاركيف، أعلنت روسيا «التعبئة الجزئية» وإجراء استفتاء حول الانضمام إليها في أربع مناطق تسيطر عليها بنسب متفاوتة، هي دونيتسك، ولوهانسك، وزابارووجيا، وخيرسون. وفقًا للقانون الروسي، يمنع إرسال المجندين إلزاميًا للقتال خارج روسيا، ويمكن فقط الاستعانة بالجنود المتعاقدين، الذين يبلغ عددهم أكثر من 400 ألف جندي. يصعُب إرسال أكثر من نصف هؤلاء خارج روسيا، فيما يتناوب النصف الآخر على الخدمة، بحيث يكون أعلى عدد من القوات التي يمكن للجيش الروسي إرسالها لساحة المعركة هو حوالي 100 ألف فقط. لكن بعد أن تصبح هذه الأراضي «أراضيَ روسية»، لن يكون إرسال المجندين إليها مخالفًا للقانون. لذا، يمكن فهم أمر التعبئة والاستفتاءات في سياق واحد: بالنسبة لروسيا، الذهاب للاستفتاء يعني إعلان انتصار تحقق في الأشهر السبعة الماضية، وفي الوقت نفسه، يحل مشكلة نقص القوة العسكرية عبر تدفق المجندين من هذه المقاطعات أو من روسيا إليها.
وفق أمر التعبئة، سيُستدعى 300 ألف جندي احتياط للالتحاق بالمعارك في شرق أوكرانيا. لكن مشكلة المجندين الروس هي أن معظمهم تلقوا تدريبًا لمدة عام واحد فقط، لا تزيد مدة الخدمة الفعلية منه عن خمسة أشهر، وقدراتهم القتالية لا تضاهي قدرات الجنود المتعاقدين. تنبع هذه المشكلة من التحولات التي مر بها الجيش الروسي في العقود الثلاثة الأخيرة. فقد كان الجيش السوڤييتي مصممًا لخوض حروب واسعة النطاق، بالتالي كان الهدف الرئيس لنظامه حشد ما يقارب خمسة ملايين جندي في وقت ضيق. ولم تكن الكثير من تشكيلات الجيش ووحداته تصل إلى المستوى الأقصى من حيث العديد والمعدات، بل كان بعضها هيكلًا يحتفظ بشكل دائم بما لا يزيد عن 20% من قوته. لذا كان الاعتماد على التعبئة في حالة الحرب عاليًا.
منذ التسعينيات، وبعد أن أعلن غورباتشوف بسذاجة قل نظيرها أن «استخدام القوة… أمر عفا عليه الزمن»، أُدخلت عدة تعديلات على بنية الجيش الروسي، اتجهت نحو تبني النموذج الغربي للجيش الاحترافي الأعلى تدريبًا والأقل عديدًا، مقابل الجيوش الأكبر المعتمِدة على الخدمة الإلزامية والتعبئة الواسعة. كانت الإصلاحات التي أدخلها وزير الدفاع السابق أناتولي سيرديوكوف منذ عام 2008، ووزير الدفاع الحالي سيرغي شويغو منذ استلامه منصبه عام 2012، هي الأكثر تأثيرًا في هذا الاتجاه. فقد قلصت هذه الإصلاحات مدة الخدمة العسكرية من 24 شهرًا إلى 12، وعززت الاعتماد على الجنود المتعاقدين الاحترافيين على نطاق واسع، الذين يتجهون للجيش طوعًا ويقضون فيه مددًا أعلى، بموجب عقود مدتها عادة ثلاث سنوات. هدفَ هذا التوجه إلى تعزيز احترافية الجيش وفعاليته، بعدد جنود أقل من الجيش السابق، لكن بكلفة أعلى.
قبيل حرب أوكرانيا، كان مجموع الموظفين التابعين للجيش الروسي يبلغ 1.9 مليونًا، منهم قرابة مليون عسكري. هؤلاء العساكر 270 ألف منهم مجندون إلزاميًا (يقضون خدمتهم الإجبارية)، و400 ألف منهم متعاقدون، والباقي ضباط وضباط صف. بالإضافة إلى هؤلاء، هناك جيش احتياط يقدر بمليوني جندي، يمثلون كلّ من أنهى خلال السنوات الخمس الأخيرة خدمته العسكرية الإلزامية، التي تفرض على كل الرجال الروس بين أعمار 18 و27 عامًا. هؤلاء هم خُمس العدد الكلي ممن أنهوا خدمتهم وما يزالون تحت سن 40 سنة، الذين يقدر عددهم بـ25 مليونًا. ومنذ أوائل الألفية الثالثة يقوم الجيش الروسي بحملتي تجنيد سنويًا، في الربيع والخريف. في دورة الخريف الأخيرة، قبل إعلان التعبئة الجزئية، استهدفت روسيا تجنيد 137 ألفًا، بما يرفع العدد الكلي للعساكر في الجيش إلى 1.15 مليونًا.
بالطبع، لن يتم تجنيد 300 ألف جندي وإرسالهم على الفور للمعارك. يستلزم الأمر وقتًا للتدريب والتجهيز، وستواجه عملية التعبئة تحديات عديدة، كونها أتت في ظل معنويات منخفضة بعد خسارة خاركيف، ودون أن يسبقها تعبئة وطنية عامة، وستزيد على غوغل أسئلة بحث من قبيل «كيف أكسر قدمي؟» أو «كيف أكسر يدي؟»، سعيًا للتهرب من الخدمة. مع ذلك، في حين كانت وسائل الإعلام الغربية تغطي أخبار هروب الشباب الروس من البلاد بعد إعلان أمر التعبئة، كان الكثيرون يصطفون أمام مراكز التجنيد طواعية. في كل بلدان العالم، ستجد العديد ممن يرفضون الالتحاق بالحرب، وروسيا ليست استثناءً. لكن العديد من هؤلاء الشباب وأهاليهم عايشوا التدمير الممنهج الذي ألحقه غورباتشوف (وطبعًا خروتشوف من قبله) بالتجربة السوڤيتية وتاريخها، بما فيه من إنكار للتضحيات الاستثنائية والشجاعة لجنود الجيش الأحمر خلال «الحرب الوطنية». حتى البطلة السوفييتية زويا كوسموديمانسكايا التي أعدمها النازيون شنقًا بعد أن تطوعت لمقاومتهم، شوّهها غورباتشوف قبل أن يدمر الأوكرانيون مؤخرًا تمثالها، عبر سماحه للصحف السوڤييتية الليبرالية بالهجوم عليها والتشكيك ببطولتها واتهامها بأنها مريضة عقليًا. هذا التاريخ ما يزال حاضرًا، وكثيرًا ما يستعاد في أيام كهذه.
في كل الأحوال، تسعى روسيا عبر التعبئة الجزئية لإرسال المزيد من الجنود المتعاقدين، مع تعزيز خطوط الدفاع بالمجندين، لمنع أوكرانيا من تكرار ما حدث في خاركيف، مما يمكّن الجنود الروس المتعاقدين من التوغل أكثر في العمق الأوكراني.
المزيد من التصعيد
تدرك روسيا أن لا أحد سيشرعن خطوة الضم الجديدة أو يعترف بها، حتى بين حلفائها المقربين. في حزيران الماضي، أبلغ الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف بوتين برفضه الاعتراف بجمهورية دونباس علنًا في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي وأمام حشد من الصحفيين، فما بالك بالاستفتاء على ضم المناطق الأربعة؟ بين كازاخستان وأوكرانيا العديد من أوجه الشبه، فكلتاهما كانتا جزءًا من الاتحاد السوفييتي، وتضمان مجموعات عرقية روسية كبيرة على طول حدودهما مع روسيا. إذا كنت تؤيد الاستفتاء على الانضمام إلى روسيا، فكيف ستواجه مشهدًا مماثلًا في أراضيك في المستقبل؟ لن يختلف موقف توكاييف عن موقف حلفاء روسيا التقليديين في آسيا الوسطى، والأمر نفسه ينطبق على الصين التي لم تعترف حتى بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، بحكم ما يمكن أن يَعنيه ذلك لمسألة تايوان. وحدها الولايات المتحدة تكيل بمئة مكيال؛ ففي الوقت الذي ترفض فيه الاستفتاء في المناطق الأوكرانية الأربعة، تحرض التايوانيين على الانفصال عن الصين بأي شكل كان.
بعد أن تصبح هذه المناطق الأربعة أراضيَ روسية، بغض النظر عمّا إذا اعترف العالم بها أم لا، ستتغير طبيعة المعركة من «عملية عسكرية خاصة» إلى صراع هدفه «الدفاع عن أراضينا»، أي رفع مستوى الحرب لدرجة أعلى، ومضيّ روسيا قدمًا بتحقيق هدفها المتمثّل في إضعاف أوكرانيا بنيويًا لجعلها دولة يصعب أن يستثمر الغرب فيها لتهديد روسيا. تغطي المقاطعات الأربع مساحة تزيد عن 108 آلاف كيلومتر مربع، أي سُدس مساحة أوكرانيا، وبلغ عدد سكانها قبل الحرب تسعة ملايين، أي خُمس سكان أوكرانيا. قبل حرب عام 2014، كانت دونباس، الإقليم المكون من مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك، المنطقة الصناعية الأولى أوكرانيا. فقد استحوذت على ربع الإنتاج الصناعي للبلاد، و40% من إنتاجها من الحديد والصلب، نظرًا إلى أنها غنية بالموارد وتشكل مصدرًا مهمًا للطاقة، حيث تضم 90% من فحم أوكرانيا (اسم الإقليم نفسه هو اختصار لـ«حوض دونيتس للفحم»، نسبة لسلسلة جبال دونيتس)، فضلًا عن احتياطيات وازنة من الغاز الطبيعي.
بعد سبعة شهور على الحرب، استطاعت روسيا ربط دونباس بشبه جزيرة القرم عبر الاستيلاء على معظم مقاطعة زاباروجيا. لكنها لم تستطع حتى الآن أن تستولي على دونباس بالكامل، فما زالت المعارك مشتعلة في دونيتسك التي تسيطر روسيا على 60% من مساحتها، بينما استولت تقريبًا على كل مساحة لوهانسك. بعد ضم المقاطعات الأربعة، يمكن لروسيا اعتبار أي هجوم تشنه أوكرانيا أو دولٌ أخرى عليها هجومًا على البر الرئيسي الروسي، وهو ما اعتُبر منذ بداية الحرب خطًا أحمر وافق عليه الغرب ضمنيًا، حين زوّد أوكرانيا بمنظومة «هيمارس» الصاروخية المعدلة، بحيث يصل مداها إلى 80 كيلومترًا فقط، رغم أنه يستطيع أن يصل إلى 300 كيلو متر، أي إلى الداخل الروسي. من المستبعد أن تقبل الولايات المتحدة بمعادلة روسيا الجديدة، بل ستدفع ومعها بعض القوى الغربية بمالها وسلاحها لزعزعة هذه المعادلة. وقد يكون تفجير خطي نورد ستريم، أهم ورقة ضغط روسي على الأوروبيين، هو ردها الأول لقطع أي إمكانية للتسوية والتواصل الدبلوماسي بين روسيا والاتحاد الأوروبي عمومًا، وألمانيا على وجه الخصوص، مما يعني أن المواجهة السياسية والعسكرية ستتسع، وقد تنتقل إلى مستوى أعلى في الشهور القادمة.
بالمحصلة، الخاسر الأكبر من كل ما يحدث هي أوكرانيا التي فقدت الكثير من أراضيها وسكانها، وبات اقتصادها على وشك الانهيار، يليها الاتحاد الأوروبي الذي تنازل عن قراره لصالح الولايات المتحدة، التي تجني منه أموالًا طائلة بإجباره على شراء الغاز والنفط الأميركيين بأسعار باهظة، تهدد مستقبل إنتاجه وصناعاته وبحبوحة عيشه، مما سيزيد من اعتماديته على جيش الولايات المتحدة ونفطها ودولارها في المستقبل. تعلمنا التجارب أنه من الخطِر أن تكون عدوًا للولايات المتحدة، لكنها تعلمنا أيضًا أن الأخطر هو أن تكون صديقًا لها.